يعرف الناس في السّانْفِيل، أنّ أخي فرخ .. حتى الأطفال حين يستاؤون مني، يتفوّهون بهذا اللفظ المشين،(ظنا منهم بأن هذا يغضبني، ويسلبني إرادتي). فإذا عاركتُ أحدهم وصرعته أرضاً؛ فمرد ذلك لأنّ أخي فرخ. وإذا رددّتُ عليهم سبابهم، وقذفتهم بكلمات أقذع مما لدى قواميسهم الشوارعية، فبسبب أنّ أخي فرخ. وينطبق هذا إذا تفوّقتُ عليهم في امتحان المدرسة، أو حصلتُ على إجابات ذكية وحاضرة، أو فزتُ في السباق، أو صنعتُ لعبة من الطين، حازت على إعجاب، أطفال الشوارع المجاورة.. يحاولون بشتى السّبل إلصاق تهمة أخي بذاتي. كأني لستُ منفصلاً عنه. كأني تابع له هو فقط. آخذ ملامحه، وأفعاله، وحركاته، والتُّهمة التي يثيرونها، في كل وقتٍ وحين. يحصـرون الجيّد والسيئ في ذاتِ الخانة. كأنّ الجيّد، ليس جيداً لأناس مثلنا، ويعانق صفة السيئ ببساطة.. أنا لا أستطيع أنْ أتنكّر لأخي. أو أرفض العلاقة، التي تربطني وإيّاه. لهذا كنتُ أكتم الجانب المظلم من سيرته، عن الناس الذين يجهلونها. وأتعامل معه على أساس، أنه أخ لأم، وأحيانا أخ غير شقيق. وفي مواقف نادرة، أخ شقيق، ترعرع في أرضٍ بعيدة، مع خالتنا. لم أكن أجد غضاضة، في أن أقول لكل الناس، أنّ أخي، ليس أخي بتمام الكلمة. وأنّ أخي، فرخ، كما وصفوه. وإنما أدعوه أخي، لأنه ابن المرأة، التي هي أمّي أيضا. وبهذا أرتاح من هذيانهم، وثرثرتهم بكلمة واحدة. غير أني أعلم، أنّ هذا يؤذي أخي، ويُعمّق جراحه، أكثر مما لو التزمتُ الصمت، وتركتُهم في لغوهم يعمهون. السبب الآخر، هو أني أُحب أخي حباً جمّاً، وسأظل هكذا دوماً. وحبّي له غير مشـروط، بكونه ابن أمّي، أو لكونه فرخ، أو لأنه يُحبّني بالمقابل، حُباً يلامس أوتار قلبي، ولا أستطيع نُكرانه. هذه علاقة أزلية، وليست معقّدة. إنها ببساطة، تعني أننا نُحبُ بعضنا بعضاً وكفى. ولسنا مُهتمّين بكوننا، من أبوينِ مختلفين. أحدهما شريف، والثاني غير ذلك. فإذا اهتممنا بهذه الخُزعبلات، فهذا يعني أننا نبحث عن الاختلافِ في علاقتنا. ولا يمكن أن يكون حبّنا، بسبب الاختلاف، الذي لا يريده الناس. وبهذه الرؤية، فإنّ العالم يرى أنه، لا ينبغي أن يوجد الاختلاف، في هذا الكون. لأنّ الاختلاف، يُسبّب الخلاف. ولأنّ العالم أثبت أنه، عدو للاختلاف. فالإنسان الأبيض، يرى أنّ الإنسان الأسود، ينتمي إلى سلالةِ القرود، لا لـشيء، إلا لأنه أسود، والسواد اختلاف. والإنسان الأسود نفسه، يرى أنّ الإنسان الأبيض، بغيض بطبعه، وكريه، لا لـشيء آخر، إلا لأنه أبيض، والبياض اختلاف. ويمكنك قياس ذلك، في الأفكارٍ، والرؤى، والأجناس، والأعراف، لتُدركَ عداوة الناس، لكل شخصٍ مختلف، ولكل فكرٍ مختلف. يمكنني استخدام الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل، في وصفِ علاقتي به، فأقول: إنّ أخي، كان قد عاش في قرية أعمامه، حِيناً من الدّهر. أو أنّ والد أخي، مات في سنة 1982، أثناء المجاعة، التي ضربت البلد. وبهذه الطريقة، أكون قد جنّبتُ نفسي، مغبّة التساؤلات المُلحّة. غالباً، ما تجلب تلك التساؤلات الملحة، بعض الإحراج. كما أنجحُ، في تخليصِ أخي، لا سيّما، إذا كان حاضراً ساعتئذٍ، من دوّامة التُّهم، المسلّطة على رقبته، منذ أن شَب، أو بالأحرى، منذ اللحظة التي وُلِد فيها. لكني لا أستطيع، أن أنفي هذه التُّهم، وأتغلّب على غرابة تصرفاتي، التي أتعرّض لها، أمام من يعرفها، بشكلٍ جلي. أو أتصرّف كما لو أنّ أخي، لم يكن شيئاً مختلفا. أو أجادل، في كونه أخي أم لا. أخي شيء مختلف، هذه حقيقة لا مِراء فيها، ولا جدال. ولكن تلك التُّهمة، لا يمكنها أن تكون له إطاراً، لا يستطيع الخروج منه، مهما فعل. وبسبب ذلك، كنتُ ألحُّ على أمي، تقريباً كل يوم، للانتقال إلى حارة أخرى. فهناك لن تلاحقنا تلك التُّهمة، ولن تطالني الألسُن، إذا نجحتُ في المدرسة، أو رسبتُ. وتقول، أنّ هذا حصل لي، لأنّ أخي فرخ. ويمكن أن يسير أخي حُراً، غير منكّس الرأس، منكسر العينين، دون أن يُنعت بالفرخ. وتخرج والدتنا إلى السّوق، في عجلةٍ من أمرها، دون أن تلاحقها النظرات، وتلهبها بسياطها أكثر، حين ينعتونها بـ »العزَبَة « . لكن أمي، ترفض إلحاحي. إذ أنّ أخي، الذي أسعى إلى حمايته، يرفض بشكلٍ جذري، مغادرة الحارة، التي عاش فيها كل التقلّبات. وهي، وإن كانت تكره الحارة، التي تُـسيء إليها، تُعاني فيها الهزيمة النفسية ذاتها، وكل طقوس القمع الاجتماعي ذاته، إلا أنها ستبقى فيها، وتتحمّل من أجل طفلها، كل ضروب الإساءة. رواية مزرعة الأسلاك الشائكة من الكتاب الأول