أخرج من قوقعتي التي حبست بها سنيناً مقهوراً، ويغريني زوربا باكتشاف الحياة خارجها. ارتاد بيت الحزبين بصورة متكررة. يبدأ رواد الكومونة في الوصول عند بداية المساء، ثم ينهمكون في إعداد طعامهم الفقير، وعند هبوط الليل يصبح عدد سكانها غير قابل للإحصاء، ويتجددون باستمرار. يتوزعون في حلقات. بعضهم يغنّون بصحبة عازف غيتار هوائي، ويتبادل آخرون شعراً ثورياً حلو الإيقاع. تضم حلقة أخرى سماراً يحتسون خمراً بلدياً نافذ الرائحة. ظللت في كل مرة آتي إلى الكومونة أنتظر أن تبدأ جلسة الشراب ثم أغادر بعدها لكي لا أصل بيت جدتي مريم متأخراً. أصبح أكثر تعلقاً بزوربا. أفكر دائماً به. أضبط إيقاع حياتي على مواقيته. دائماً ما أنتظر وقتاً طويلاً حتى ينهي زوربا واجباته الحزبية، ولا يضجرني الانتظار. نتسكع معاً على ممرات الجامعة. أحس بأمان أكبر عندما أصحبه، لا أخشى الناس، أحسني طبيعياً وجدير بالحياة أكثر من أي وقت مضى. يصدّر لي زوربا ذلك الإحساس لأنه تلقائي وصادق. لم أعد أسأل نفسي متى يمد زوربا يده ليتحسس جسدي تحت وطأة رغبة فالتة.سئمت التحرش، سئمت أصابع الرجال الطويلة التي لا تتوقف عن تتحسس مؤخرتي في كل وقت، فتسم روحي بجراح لا يشفيها تضميد، ولا يعرفها سلوان. أهرب برفقة زوربا في بعض الأحيان من الجامعة، نذهب للجلوس على شاطئ النيل، نقعد على الحائط الحجري الذي يروض وحشية النهر. نرمي بأقدامنا في الفراغ الممتد بينها ومياه النهر، نراقب المراكب الشراعية التي تقل الناس بين الضفتين. نتأمل المزارع على الضفة الأخرى والفلاحون ينهمكون في فلاحتها. بينما يغني زوربا، أرمي برأسي المثقل على كتفه. يحدثني عن كفاحهم من أجل وطن ديمقراطي واشتراكي ينعم فيه الجميع بحياة كريمة، عن عسف السلطة، وعن صراعات المناضلين. أهتم بكل ما يحدثني به زوربا، أشعر أنه يرغب في أن يشاطرني ذاكرته، في أن يقاسمني لحظته، في أن يسكنني قلبه. يمسك يدي، يضغط عليها، لوقت طويل، بلطف، كأنه يرغب أن يفرغ، عبرها، جسمي من توتر لازمه سنين طويلة وبائسة. أهمس له: – أنا متعب من هذه الحياة! يمرر أصابعه النحيفة الجافة على شعر راسي الملقى عل كتفه، يقول لي بصوت رخيم: – تمتلئ الحياة بالتفاهات اليومية وبالبؤس المضني، وهذا أصلٌ فيها، فإن لم تدرّب نفسك على مقاومتها، سترمي بك في قبو الوحشة المستعرّ. أشعر أن طاقة جديدة تغذي جسدي، وبرغبة في أن أعافر الحياة بندية، وأن أتجاوز عثرات سنين طويلة أمضيتها في عزلة قاسية. حين أجد زوربا بجانبي، لا أخاف شيئاً.أحادث الناس بصوت يخرج من جوفي نقياً، قوياً، لا أُرَاوِحَه، لا أخشى وقعه على آذان الغير. لم يسألني زوربا عن جسدي على الإطلاق. اسأل نفسي بأسى: » لم تأخر لقائي بزوربا كل هذا الوقت؟ »، أنا أشفى من ارتباكي. يشجعني قبول زوربا والحزبيين لجسدي، كما هو عليه، أن أتصالح معه أنا أيضاً. فلا أحد يأبه لي، لا أحد يولي ارتباكي انتباهاً، لا أحد يولي جسدي المحفّز للتحرّش اهتماماً. فقط أحس بعض الأحيان أنّ هجو موسى يراقبني بتوتر، يهرش شعيرات لحيته النابتة لكي يفرغ اضطرابه، لكنه لا يزعجني، فهو يجهد لكي يجعل مراقبته لي غير مرصودة مني ومن والآخرين. وعندما أذهب برفقة زوربا إلى الكومونة، أختار دائماً أن أجلس في الحلقة التي مركزها هو.أجلس قريباً منه، أتأمل طريقته الساخرة في الحوار، ورغبته في أن يستخلص المتعة من كل تفصيلة عابرة. أعلق بصري عليه. تمتعني يديه إذ يلقي بهما في الهواء ليزيد معانيه وضوحاً، وأسنانه السنجابية إذ يبللها اللعاب فتلتمع ببهاء. في كل مرّة أعود إلى بيت جدتي مريم آخر الليل، أرى وقع خطوات القط كلارك تملأ كل شبر منه. أحس توتر أنفاسه عالق في الفضاء، وصدى مواءه الغاضب مشنوق على أغصان أشجار الحديقة المهملة. يلتصق وبره المتطاير على أطراف رموشي وعلى فتحات أنفي وأذنيّ. ينقبض قلبي. تعبر جسدي قشعريرة. أشعر أني ألج مقبرة ملعونة، ألج كهف جبلي تسكنه أرواح ضحايا عنف الإنسان الأول، قبل أن يفهم الإنسان أنه في الأصل قاتل، وغير رحيم. قبل أن يدرك الإنسان أن رحمته بالغير هي ذروة أنانيته، لأنها موجهة في الأصل لذاته الخائفة. احتمي بغرفتي، أغلق النوافذ وأبقي الإضاءة مشعلة. أصحو مرهقاً من خوفي ومن بقاء الضوء عالقاً بجفنيّ حتى الصباح. عندما أخرج للفناء، أرى كلارك ممداً قريباً من الباب، تمور عيناه بالدم المسفوك. ينظر إلي بقسوة، يخرج أنيابه ويضرب بها الفضاء المثقل برغباته الغامضة. يسكنني رعب من المكان. أذكر أنه عندما تزداد أمي زَهْرَة مرضاً، يزداد أبي توتراً. يهزل جسدها، تبرز عظام وجنتيها بجلاء، عندما تمشي لوحدها، تشعر أنها ستسقط وتتحطم، تزداد اكتئاباً، تنزلق رغبتها في الحياة إلى دَرْك غائر. يجلب أبي معالجاً شعبياً لمداواتها، بينما يضع المعالج بخوراً كريه الرائحة في غرفتها، ينهمك في قراءة القرآن بصوت أجش. تستسلم له أمي زَهْرَة. بينما يقرأ المعالج كثيراً من القرآن إذ يبسط كف يده اليمنى أمام فمه، ينفخ عليه كل حين ثم يمسحه على رأس أمي زَهْرَة. تدخل جدتي مريم الغرفة، فيتبعها أبي، تهتف له: – أوقف هذا الهراء، يجب أن تذهب بها إلى الطبيب! يصيح فيها أبي بكراهية لا يواريها: – مرضها لن يعالجه الأطباء، أنها ممسوسة. ثم ينتصب لجدتي مريم أمام وجهها، ويصيح: – مسّها شيطان رجيم، وأظنك تعرفين أكثر من غيرك أين صادفها هذا الشيطان اللعين؟ عرفت لاحقاً أن أبي كان يمنع أمي زَهْرَة، منذ أن أصابها المرض الخبيث، من أن تزور جدتي مريم في بيتها. ربما كان محقاً. أقرر أن أغادر البيت، أحمل أغراضي الضرورية. أحلّ بالكومونة من دون أن يلحظ شعبها بأني أصبحت من المقيمين غير معروفي العدد، وفي ليلتي الأولى أتشارك الفراش مع زوربا. نمدّ سجادة قديمة على أرض الفناء، نرمي عليها مساند متداعية، ويغمرني أمان غير مسبوق. لا أذكر أن أمي زَهْرَة أنامتني قربها على الفراش. عندما كان يدهمني النعاس وقتها، كنت أصعد السرير بنفسي، ثم أنام وأصحو وحيداً مثل نجمة الصباح. نستلقي على السجادة، نعلق أبصارنا على السماء الصافية، تتبعثر النجوم على صفحتها بفوضى يلجمها نظام كوني باهر. ألمح أسنان زوربا البارزة تلمع على ضوء القبة السماوية، ويهمس لي بصوت تسكن نبراته محبة هادئة: – مرحباً بك في الكومونة. أمد يدي لأضغط على كتفه شاكراً، يضيف ساخراً: – لا نملك شيئاً نقدمه لك هنا سوى المحبة الحافة. أتأمل النجوم بدهشة فهي لا تشبه تلك التي عرفتها طوال عمري. نصمت، ينتظم تنفس زوربا. تخرج رائحة الكحول من بطنه المشبعة لتحوم حول جسده المخدر. يستدير عني وينام. أتذكر جدتي مريم ومغالبتها للحياة. كثيراً ما تحكي لي عن حياتها. أنقلب على جانبي. يهدأ البيت تماماً، فأرى أشباح النائمين تتوزع في كل ناحية منه، استدعي حكاية جدتي مريم مع المستر كلارك لأؤنس بها تأرُّقِي، فذاكرتي مثقلة بحكايات الجدة، مثل حصالة صبي العائلة الوحيد ضحى العيد الكبير. أصبح من سكان الكومونة، تخلصني إقامتي بها من غضب القط كلارك ورغبته الشريرة البائنة في أن يلحق بي الأذى. سكان الكومونة لطيفون في أغلب أحوالهم، لا يتدخلون في شؤون غيرهم. يأتون إلى الكومونة آخر المساء وأول الليل مرهقون من معافرة الحياة القاسية، ينزلون أثقال رهقهم النهاري استعداداً لنهار آخر ربما يكون أثقل وطأة. يفترشون جوالات قديمة وقطع من الكرتون الممزق الأطراف. يتوسدون ثنيات سواعدهم، ينامون بعمق حتى أن أجسادهم تذهب بعيداً عن مراقدهم، تصطدم ببعضها وتتدحرج بحرية، مثلما الأحلام، على الفناء الواسع. بعضهم طلاب، وبعض آخر منهم خريجون لا يجدون عملاً. يمارسون مهناً صغيرة في انتظار وظائف لا يبدو أنها ستتوفر. عندما كنت مقيماً في بيت جدتي مريم، لم أكن أفهم كيف تمضي الحياة في تفاصيلها الدقيقة بسبب عزلتي، لم أكن أدرك أني أعيش في بلد يمزقه البؤس حقاً. كانت كلمة فقر بالنسبة لي كلمة مجردة، أفهمها لغوياً، ولا أتمثلها شعورياً. لكني أراها الآن محمولة، مثل صخرة، على أكتاف آلاف البشر الذين أقابلهم في تنقلي اليومي برفقة زوربا. أرى كيف تحطم ظهورهم بثقلها المقيت. تعجبني الطريقة التي يتشارك بها سكان الكومونة كل شيء يمكن تشاركه، يتبادلون برضاء تام الملابس والأحذية. لا أحد منهم يخصص فِراشاً لنفسه، بل يتبادلون أماكن النوم بتلقائية. بعضهم يتشارك فرشاة الأسنان ذاتها. يأكلون ذات الطعام الرخيص لأيام متتالية، وتلتقي أياديهم في ساحة ذات الإناء إذ يتشاركون وجبةً، كأنها تجدد عهداً أزلياً بالتضامن في وجه المسغبة. أفهم أنها طريقة فعالة للتغلب على البؤس والفقر. أرتعب في البدء، أحاول أن أقتطع لي مساحة خاصة وسط هذه الفوضى، لكنهم يُفْشِلُون خططي من دون ترصد. كثيراً ما أرى ملابسي يرتديها أناس لا أعرف عنهم إلا أشكالهم. كثيراً ما أصادف، عند محطة البصات، حذائي الأنيق، الذي أدخره للمواعيد المهمة، يضعه أحدهم بلا احتفاء، مجرد حذاء. لا تتجاوز قيمة الأشياء ما تؤديه من وظيفة، فهم ينزعون عنها، بصوفية سهلة، أي قيمة تضاف لها.