ندوب حرب أكتوبر ؛ الطقس في هذا الشهر عادة ما يكون متنقلا بين صيف وخريف وشتاء ، هدأت الأمطار منذ نهاية سبتمبر ، لكنها تفاجئنا بين الحين والآخر برذاذ خفيف ، لم يأت الشتاء بعد ؛ لكنه يرسل لنا رياحا باردة قبيل الفجر ، ليذكرنا أنه قادم في الطريق، أما الصيف فهو الطقس الأكثر شراسة، والأطول زمنا في أنجمينا بين كل الفصول ، يكون الجو أحيانا صيفا خانقا ، وأحيانا صيفا حارقا ، ثم صيفا ماطرا ، فصيفا لطيفا ، حتى يقضي الشتاء عليه تماما في شهري ديسمبر ويناير . والصيف في أكتوبر؛ يكون لطيفا ؛ قابلا للاحتمال .. بدأنا عامنا الدراسي بحماسنا المعتاد ، وشوقنا الجارف لنميمة الأصدقاء ، والمدرسة ، ووجبات الإستراحة ، أما الدروس والمعلمين ؛ فلا شوق لهم ولا سلام .. تبادلنا التحايا ، اخترنا مقاعدنا ، فرغنا أشواقنا تجاه بعضنا ، وخضنا في كل نميمة وغيبة حتى قاطع جلستنا معلم التاريخ ، المعلمون الجادون الذين يحضرون منذ الحصة الأولى ؛ يثيرون نفوري .. دخل الأستاذ ؛ خمسيني ذو شعر فضي ، لا تبدو عليه – كجل المعلمين – أمارات الراحة والرفاهية، هيئته تشي بالبؤس واليأس ، كأن البؤس لعنة أصابت المعلمين وظلت تلاحقهم طوال أجيال .. حيانا ، عرفنا بنفسه وتعرف علينا ، خربش على السبورة بعض المواضيع ، وقال : أنا مدرسكم لمادة التاريخ ، المنهج المقرر يتناول هذه العناوين التي في السبورة ، لكن ؛ لي منهجي الخاص بي ، تاريخنا الوطني الذي سأرويه لكم شفهيا أثناء الدروس ، إذ أجده أكثر أهمية وفائدة لكم من هذا المنهج ، الذي سأدرسه لكم أيضا .. ولأن تشاد هي الأََولى ، في هذه الحصة سنكتفي بدرس التاريخ الشفهي عن تشاد .. اليوم سأقص لكم أسوأ حرب في تاريخ تشاد قاطبة ، من منكم سمع عن حرب السارا؟ رفع خالد يده وأجاب : لدي خالة عاشت في الجنوب، وحضرت الحرب ، مات معظم أبناءها الشباب في تلك الحرب ، ودائما ما تلعن السارا وتدعو عليهم بالهلاك .. ممتاز خالد ؛ هي الحرب التي أريد أن أحدثكم عنها ، من غير خالد سمع عن هذه الحرب ؟ سأل الأستاذ .. لم يرد أحد ، لم أسمع قط عن حرب كهذه ، الحرب الوحيدة التي سمعت عنها هي حرب التسعة شهور ، أعرف اسمها دون أن أعرف تفاصيلها، عدلت جلستي وأعرت انتباهي للأستاذ ، إنها حصة مثيرة .. في هذه الحرب قُتل المسلمون في الجنوب بوحشية من قبل المسيحيين ، لم يتركوا مسلما طالته أيديهم على قيد الحياة ، قتلوهم بالكبكب، والسكين ، واستولوا على مواشيهم ، وتجارتهم، أعداء الله ، الكفرة ، كره المسلمين ظل قابعا في صدورهم منذ الأزل .. انفعل الأستاذ ، وتغيرت ملامحه ، تهدج صوته ، وكاد أن يختنق ، اتجه صوب الباب ، تابعته بنظري ، أخذ نفسا عميقا ، وقف قليلا ، ثم عاد ليكمل القصة .. صديقكم خالد فقد أبناء خالته ، وأنا خسرت إخوتي الشباب في تلك الحرب ، كنا أيتاما، وكانوا يتاجرون في الجنوب ، ويعيلون الأسرة ، قتلوهم بوحشية ، لم نجد جثثهم ، فقدت أمي عقلها قهرا عليهم ، بقيت أنا وأخواتي الثلاث ، عانينا اليتم والتشرد والجوع .. تأثر الأستاذ مجددا، قطع حديثه ، جلس على كرسيه تنازعه انفعالاته وينازعها ، وبقينا ننظر إليه بحزن ، ونتخيل كم عانى بعد فقدان والديه وإخوته حتى كبر وصار معلما .. قال بعد أن هدأ وضبط نفسه : لن أثقل عليكم منذ الحصة الأولى، سأروي لكم باقي قصص التاريخ في الحصص القادمة ، وألقاكم بخير إلى حينها .. أخذ حقيبته الصغيرة المكتظة بالأوراق وخرج ، خرج هو بينما علقت حرب السارا في ذهني ، لم أسمع بها من قبل ، أحدثت حرب بين مسلمين ومسيحيين ؟ متى ؟ ولماذا ؟ وكيف لم أسمع بها من قبل .. خرجنا من الفصل ، وجدنا جدو ، وأصحابه خريجي مدرستنا الذين نجحوا في البكالوريا ، وغادرونا . يزورون ثانويتهم التي لن يكونوا ضمن طلابها بعد الآن .. غابت صديقتنا كلتم ، سألت عنها ، قالوا لي أنها انتقلت إلى دينقيسو ، ولن يكون مجيئها إلى المدرسة سهلا ، لذلك غيرت مدرستها.. دينقيسوا !! أهي مدينة أخرى ؟ سألتهم ، فاستغرقوا في الضحك جميعا ، وقالوا إنها حارة في أنجمينا، وسألوني ليستهزئوا بي أكثر ، هل تعرفين قرون بقر ، أربط صلبك ، أم قمبو، قينبور ، بللو، مرجان دفق ، دمبي ، سبنغالي ، كليب مات ، الحي الأوروبي ؟؟ ، أجبتهم بالنفي على كل سؤال ، حارات غريبة لم أسمع بها من قبل ، فضحكوا علي أكثر ، لأصبح ضحية الجلسة ومائدتها .. قال لي جدو حينها ، وهم منهمكون في سخريتهم بي : لا تأبهي بهم ، أنا سأعرفك على أنجمينا، وآخذك لأكثر الحارات والأماكن الحيوية فيها ..